"إن ضرورة التشريع لصلاح الحياة الإنسانية أمر لا خلاف فيه ، فالحياة الإنسانية لا تصلح إلا بنظام ترجع إليه وتشريع تحتكم إليه ، ومن أخطر مشكلات الإنسان التي يواجهها في طريق بحثه عن السعادة والأمن والاستقرار مشكلة التشريع الذي يرجع إليه في نشاطه والنظام الذي يحكمه في تصرفاته والضوابط التي يلتزم بها في علاقاته مع عناصر الوجود كله "والقرآن الكريم هو المصدر الأعلى الجامع لأصول التشريع والسنة النبوية هي المصدر الثاني من مصادر التشريع وهي تالية للقرآن الكريم في منزلة المصدرية ورتبتها ، وتجيء مبينة لمجمله ، مفسرة لمبهمه ، مقيدة لمطلقه ، محققة لشرطه والتطبيق العملي لنصوص الكتاب والسنة ووضع هذه النصوص موضع التنفيذ هو التطبيق الواقعي المستقيم لمقاصد الشريعة وهو التطبيق الذي جرى عليه الخلفاء الراشدون وعلماء الصحابة في فتواهم وأمراء الولايات والفتوحات والجهاد في سياستهم وأحكامهم ومن استن سنتهم وسار على دربهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها " .
(وقد تنوعت أحكامه فلم تقتصر على الأسس والقواعد الواجبة التطبيق في مجال معين وإنما تضمنت الأحكام الخاصة بالعقيدة والشريعة والعبادات والأخلاق . . ذلك : لكي تتكامل شخصية المؤمنين به وتتآزر مختلف الأحكام في تكوين المجتمع الفاضل وإعداد الشخصية المسلمة وتربية الأمة تربية إسلامية تؤهلها لوصف الله إياها بأنها خير أمة أخرجت للناس ، إننا لن نسهب في بيان أن القرآن الكريم كتاب إلهي أوحاه الله تعالى إلى رسوله خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم ، ونقل إلينا بطريق القطع الذي لا يدخله ريب في كلمة أو حرف منه ، نقلا متواترا ، لم تتخلله فترة من لحظات الزمن منذ أنزله الله تعالى على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وتلقاه عنه أصحابه ، وكتبوه وحفظوه في صدورهم آية آية ، وسورة سورة ، على الوضع الذي هو عليه في صدور حفظته من عشرات الألوف من قراء الإسلام ، في كل عصر ومصر من أمصار الإسلام . ذلك لأن هذا النحو من البحث إنما يكون من الذين يلحدون في آيات الله عنادا للحق ومكابرة لواضح البرهان ، وقد أشبعه العلماء بحثا ، وأطنبوا فيه حديثا ، حتى جعلوه لمن شرح الله صدره لقبول الحق مكان الشمس في ضحوة النهار ليس دونها سحاب .
وإنما نقصد إلى الحديث عن القرآن باعتباره منبع الهداية ، وموئل الحكمة ، ومبعث العدالة والرحمة ، والمصدر الأعلى للتشريع الإسلامي على ما جاء في حديث الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كتاب الله فيه نبأ ما كان
قبلكم وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، وهو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا : قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد (الجن : 2 ، 1) ، من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه فقد هدي إلى صراط مستقيم . . .
والتاريخ الصادق لا يتردد في أن القرآن الكريم قد عاصر أحداث تطور الإنسانية سياسيا وفكريا واجتماعيا ، وعاصر المد الحضاري في العصور المختلفة ولم يحظ كتاب بمثل ما حظي به القرآن العظيم من العناية في تلقيه وحفظه وضبطه ونقله وروايته جيلا بعد جيل ، وقبيلا إثر قبيل .
* فهو الكتاب الفذ الذي حفظ في صدور قرائه من جماهير المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، وشمالها وجنوبها تلاوة وحفظا وإتقانا وتجويدا وحذقا لا يفوتهم منه حرف من كلمة أو آية .
* وهو الكتاب الفذ الذي كتب كله في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفقد منه حرف .
* وهو الكتاب الفذ الذي أجمع المسلمون بجميع فرقهم ومذاهبهم على شرط التواتر القائم في نقله سورة سورة ، وآيه آية ، وكلمة كلمة .
* وهو الكتاب الفذ الذي انفرد في عصر النبي صلى الله عليه وسلم بالكتابة بأمره صلى الله عليه وسلم حتى انفرد بالتواتر واشتهر بالعرفان لدى الخاصة والعامة فلا يشتبه بغيره لأول وهلة وإن كان بأسلوبه البياني الخاص لا يمكن فيه الاشتباه عند أدنى تأمل ، روى الأئمة وأخرجه مسلم من حديث أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه . . . الحديث) .
ذلك لأن القرآن منذ نزوله آية آية ، وسورة سورة ، كان له تاريخ مشهود ، في تلقيه ونقله بالتواتر القاطع ، وحفظه في الصدور ، وكتابته في الصحف والمصاحف ، فلم يعرف التاريخ القرآني أنه في وقت من الأوقات أو لحظة من لحظات الزمن فقد المسلمون سورة من سوره ، بله آية من آياته ، بله القرآن كله ، وكانت خصيصة القرآن في تلقيه ونقله التواتر القطعي ، فهو بهذا يكون محفوظا تاما من التحريف أو التغيير أو التبديل .
نعم إن القرآن الكريم يحمل بين أحضانه برهان حفظه فالله تعالى يقول فيه إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (الحجر : 9) . بيد أن الحفظ قد تختلف وسائله وتتعدد طرائقه ومن مظاهرها في المتعارف بين الناس هو تيسير الأمة إلى العناية به عناية تفوق كل عناية وبهذه النظرة الفاحصة وبهذا الاعتبار المشرق كان القرآن الكريم هو المرجع الأول لجميع مصادر التشريع في الإسلام ، والدستور الجامع لتلك التشريعات نصا وتفصيلا ، أو دلالة وتأصيلا ، وهذا عند جمهور المفسرين والفقهاء وهو معنى العموم في قوله تعالى ما فرطنا في الكتاب من شيء (الأنعام : 38) .
فالكتاب عندهم هو القرآن بدلالة قوله تعالى : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء (النحل : 89) لأن المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تبيانا لكل شيء هو القرآن الكريم بلا منازع .
يقول الإمام الشافعي رحمه الله ( . . . فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله تعالى الدليل على سبيل الهدى فيها وأخرج عنه ابن جرير وابن حاتم أنه قال : أنزل الله في هذا القرآن كل علم وبين فيه كل شيء ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن) .
وهذا كلام يدل على نفاذ بصيرة وتعمق في فهم القرآن ، وفقه معانيه ، لأن القرآن الحكيم هو المعجزة الخالدة للنبوة الخاتمة ، فلو لم يكن فيه من العلوم والمعارف ما تقصر العقول عن الإحاطة به في عصر من العصور لما تحقق استمرار إعجازه والتحدي به على مر العصور والأجيال ، وإعجازه قائم لا تزال الأيام تكشف منه كل يوم جديدا .
وإن نظرة واحدة إلى ما شرعه الله في القرآن من أصول وقواعد ، وما دعا إليه من آداب وسلوك ، وسنن قويمة تجعل المرء يؤمن من أعماق قلبه أن الإسلام جعل هذه الأمة ، خير أمة أخرجت للناس ، تقودهم إلى الخير ، وتوجههم إلى الغاية المثلى وتدلهم على السعادة الحقيقية) .
وصدق الله تعالى إذ يقول : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله (آل عمران : 110)
ولسنا الآن بصدد تفصيل كل ما سنه الإسلام من شرائع لإصلاح الحياة ، وتهذيب كل ناحية فيها ، وتأمين الناس حتى لا يبغي بعضهم على بعض ، ولا يأكل أحد مال أحد أو يلغ في عرضه أو يكشف ستره أو يهتك حرمته ، فذاك أمر يطول الحديث فيه .
ولكن دعنا أخي القاري الكريم نقتطف زهرة فواحة من بعض النواحي ، وفيها غنية لكل عاقل يلازمه النظر الصحيح والإدراك السليم ، ودلالة أبلغ دلالة على أن الإسلام دين ودولة أدب وسياسة ، عبادة ومعاملة ، وتشريع يربط العبد بربه ويصل الإنسان بأخيه الإنسان ، صلة كريمة لا بغي فيها ولا عدوان ؛ فمن حيث عموميته وشموله فإنه تشريع محكم وعام وخالد أتى بالأسس التشريعية والخلقية التي تسمو بالإنسان إلى أعلى درجات الكمال ، أنزله رب البرية عاما للثقلين : الإنس والجن وموجه إلى الناس كافة ، باعتبار إنسانيتهم التي ميزتهم عن سائر الحيوان : يحقق مصالحهم في كل عصر ومصر ، ويفي بحاجتهم ولا يضيق بها ولا يتخلف عن أي مستوى عال يبلغه أي مجتمع من المجتمعات ، ومع عمومية التشريع الإسلامي فإنه شامل كذلك لكل جوانب الحياة ومناحي الاجتماع فلم يترك شاردة ولا واردة إلا ذكر فيها خبرا أو شملها حكما أو أدرجها تحت أصل أو قاعدة .
فقد وسع بقواعده العامة وأحكامه الفرعية جميع شؤون الحياة واستوعب حاجات الإنسان ووفق بين مقاصده وبين تحديد الغاية من خلقه . . . قال تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (الذاريات : 56)
وقال تعالى : قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين (الزمر : 11 ، 12)
وتناولت بيان وظيفته في الحياة ومركزه في هذا الكون الفسيح قال تعالى : هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب (هود : 61)
وقال تعالى : هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور (الملك : 15)
والإيمان به ينحصر في الإيمان بوجود الله ووحدانيته ، والإيمان بالملائكة والرسل الكرام ، وبالكتب الإلهية المنزلة ، وبالقدر خيره وشره ، وعناصر هذه العقيدة تسمو عما نشاهده في عالم اليوم من عقائد باطلة وفلسفات مشوهة ، فهي عقيدة تحرر الإنسان من المخاوف والقلق والاضطراب ، وتشعره بعزته وكرامته وأهمية وجوده في الحياة ، حيث إنه مستخلف في الأرض وهو المنوط به إعمار الكون ، وتقدم الحياة البشرية ، وإحراز السبق المدني والحضاري .
إن عقيدة القرآن تعتمد العقل وسيلة الإقناع ، والحكمة أسلوب الدعوة إليها ، والعلم ميزانا ومأوى ، وطريقا لبناء الفكر والحضارة .
أما العبادة في الإسلام ، فهي ترجمان صادق حسي للعقيدة ، ولا بد منها ؛ لأن الإيمان : ما وقر في القلب وصدقه العمل ، وهي بالإضافة لذلك طريق لغرس رقابة الله في السر والعلن في القلوب المؤمنة ، وتلك الرقابة مصدر دافع لكل خير ومبعد ناء عن كل شر ، فهي تهذب النفس والمشاعر الإنسانية ، وترشد إلى الفضيلة ومقاومة الرذيلة ، وتدعو إلى الخير العام والخاص ، وتؤدي إلى توثيق الروابط والصلات الاجتماعية والإنسانية والأسرة في الإسلام قوية متضامنة مترابطة غير مفككة ، تجمع بين أفرادها المحبة والمودة والرحمة والعطف بين الكبير والصغير ، ويعتز المسلمون ببقاء رابطة الأسرة قوية غير مفككة خلافا لما في الغرب أو الشرق ؛ لأن الأسرة محكومة بضوابط وآداب وسلوك قرآنية في الإسلام .
والمجتمع الإسلامي أيضا مجتمع متكافل متراحم متعاون ، والأمة الإسلامية صاغها القرآن الكريم وجعلها أمة واحدة ، والمؤمنون إخوة ، والجماعة رحمة والفرقة عذاب ، ويد الله مع الجماعة ، والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ، يرعى القوي الضعيف ، والغني الفقير ، والصحيح المريض . والمحبة نسيج الإيمان الذي يجمع أبناء هذا المجتمع ، والمجتمع الإيماني هو قاعدة الدولة في سلمها وحربها ، وفي دعم أزماتها المالية ورفدها بكل ما تحتاج إليه لحماية وضمان المصالح العامة الداخلية والخارجية ، وأبناء المجتمع القرآني بناة المدنية والحضارة الروحية والمادية معا ، يعملون بما يحقق الصالح العام والأهداف الكبرى ، ويمتنعون عن كل ما يوهن الأمة ويضعف المجتمع المعاصر ، وإبقاء مظاهر التخلف والجهل والفقر والمرض .
والمعاملات أو العقود في منهج القرآن بين أبناء المجتمع كلها مدنية ، لا شكليات ولا تعقيدات فيها ، ولها ضوابطها وقواعدها الشرعية القائمة على حفظ الحقوق وإقامة الحق والعدل والمساواة ومنع المنازعات ومقاومة كل أشكال الكسب غير المشروع الناجم عن الغش والغبن والاستغلال ، والطيش البين ، والهوى الجامح ، والخداع ، والقمار ، والربا أو فوائد القروض والبيوع ، وجميع حالات أكل أموال الناس بالباطل ، فكل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله
وعرضه .
والتعازير تعد مؤيدات وكوابح لحماية نظام الشريعة الأصلي واحترام أصولها العامة ، وغايتها تحقيق الأمن والاستقرار والأمان وزرع الثقة فيما بين الناس .
والأخلاق في المنهج القرآني ليست ذات غاية نفعية ، وإنما هي محترمة مصونة لذاتها ، ولأنها جزء من العقيدة والدين ، وهي محل عقاب وجزاء في الدنيا والآخرة ؛ يشعر كل مسلم أنه بالتزامه الجانب الأخلاقي يرضي الله به ، ويحس في أعماق نفسه بضرورة الأخلاق الحسنة من صدق وأمانة ووفاء بالعهد والوعد وإتقان العمل ، والإخلاص ، والحلم ، والجود ، والرفق والرحمة ، والصبر والعفة ، والحياة والإخاء والاتحاد ، والكرامة وعزة النفس ، والشجاعة والإقدام والانتفاع التام بالوقت ، وغير ذلك ليسعد الناس ، ويهنأ المجتمع .
ونظام الحكم في الإسلام يقوم على أسس الحق والعدل ، والشورى ، والمساواة ، والحرية في إطار الدين الذي يمنع الجموح والشذوذ ومصادمة القيم الكبرى والنظام الأمثل وسعادة الإنسان نفسه ، ويعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أساس التكافل الأدبي والثقافي والاجتماعي ، كما أن التضحية والعمل للصالح العام المقدم على الصالح الخاص ، وبناء مستقبل الأمة والتعاون والتكافل ، كل ذلك من قواعد الحكم القرآني .
* ويدعو القرآن كذلك إلى المحافظة على الأموال فيقول جل شأنه ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون (البقرة : 188)
* ويحرص أشد الحرص على صيانة الدماء فيقول عز من قائل ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق (الإسراء : 33)
* وقوله تعالى : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما (النساء : 93)
*ويشرع القصاص فيقول سبحانه : ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون (البقرة : 179)
* ويدعو إلى الوفاء بالعقود واحترام العهود حتى مع المعاهدين ومن دخلوا في ذمة المسلمين : إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين (التوبة : 4)
* وهكذا نجد في كل ناحية ، تشريعا محكما ونظاما دقيقا وحكما هادئا رفيقا ، لا عنف فيه ولا قسوة ولا ظلم ولا إجحاف ، ولا يشعر أحد بما يشق عليه أو يجد فيه عسرة مادام يؤدي واجبه ويقوم بتبعاته .
? فهل بعد هذا تشريع يحفظ كيان المجتمع من التهدم ويصونه من الانحلال والتدهور؟
* وهل بعد هذا التشريع المهذب السمح ، تشريع يمكن أن يأخذ به الناس وتسير عليه الجماعات ويصلح به شأن الدنيا؟ ، فإذا صح عزم المرء وصدقت نيته في التوجه إلى الله فإن في أحكام القرآن وشرائعه دليلا له إلى معالم الصراط المستقيم ? وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه الآية (الأنعام : 153)
* كما أن التحدي به قائم يحمله في أحضان آياته فلا يمر عصر من الأعصار إلا ويظهر في القرآن من مظاهر الإعجاز بكل صوره ما لم يكن معروفا للعصور التي سبقته تمشيا مع تقدم الفكر البشري وتقدم العلوم والمعارف .
* أفي هذا عبرة لمن تحدثهم نفوسهم أن الإسلام دين ليس له شأن في الدولة؟ ، وعبادة لا تتصل بالسياسة؟ ، إنه ادعاء مريض وتفكير سقيم ، ونظر كليل ، لا يعرف الحقائق الدامغة ، ولا يبصر ما تحفل به صحائف التاريخ من مجد أثيل وجاه عريض ، والسماحة واليسر في تكاليف الإسلام وشرائعه من أهم خصائص التشريع القرآني ، قال الله تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر (البقرة : 185) ومبدأ السماحة واضح في العبادات والمعاملات حيث يسر الله أداءها وراعى الظروف الاستثنائية الاضطرارية والحاجية كالسفر والمرض والإكراه والاضطرار ، وراعى مبدأ الظروف الطارئة في العقود وغيرها .
والخلاصة إنه حين يستعرض المرء مظاهر التشريع القرآني ويتأمل فيما أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم من أحكام وآداب ؛ يرى أن الإسلام وضع الدواء الناجح لكل داء والبلسم الشافي لكل جرح ، وعالج كل مشكلة يمكن أن تصيب الجماعة بالتصدع والانهيار . . . . . . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله تعالى : وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه الآية (المائدة : 48)
قال : (إن القرآن الكريم قرر ما في الكتب المتقدمة من الخبر عن الله ، وعن اليوم الآخر ، وزاد ذلك بيانا وتفصيلا ، وبين الأدلة والبراهين عن ذلك وقرر نبوة الأنبياء كلهم ورسالة المرسلين ، وقرر الشرائع الكلية التي بعث بها الرسل كلهم . . . ومن تأمل ما تكلم به الأولون والآخرون في أصول الدين والعلوم الإلهية وأمور المعاد ، والنبوات ، والأخلاق والسياسات والعبادات ، وسائر ما فيه كمال النفوس وصلاحها وسعادتها ونجاتها لم يجد عند الأولين والآخرين من أهل النبوات ، ومن أهل الرأي كالمتفلسفة وغيرهم إلا بعض ما جاء به القرآن . . . ولهذا لم تحتج الأمة مع رسولها وكتابها إلى نبي آخر وكتاب آخر فضلا عن أن يحتاج إلى شيء لا يستقل بنفسه غيره) . .
إذا كان القرآن قد أبان أصول الاعتقاد المنجي بين يدي الله تعالى ، ووضح للبشرية طريق العبادة الصحيحة ، وأحل الحلال النافع ، وحرم الحرام الضار ، ووضع منهج المعاملات المشروعة ، فأحل البيع ، وحرم الربا ، ومنع أكل أموال الناس بالباطل من سرقة ورشوة وغصب ونهب وغش وخديعة وغبن واستغلال ، وأقام دعائم الحكم على أساس من الحق والعدل والشورى والحرية والمساواة ، ونظم العلاقات الدولية على قاعدة من إيثار السلم لا الحرب ، والأمان لا الإرهاب والرعب والخوف ، والوفاء بالعهد ، والرحمة والفضيلة والأخلاق والإنسانية الكريمة ، وشرع الجهاد لدحر العدوان وقمع الظلم ، وإنقاذ المستضعفين ، وحماية المضطهدين ، ومنع الفتنة في الدين ، والدفاع عن ديار المسلمين ووجودهم وكيانهم وحرماتهم وحقوقهم ، والقيام بواجبهم في تبليغ رسالة الإسلام ودعوة الله إلى الناس كافة .
فما على أهل القرآن إلا الالتزام بما شرع الله ، وامتثال ما أمر به الله ، واجتناب ما نهى عنه ، وهذا هو التدين الصادق الذي يقف بصاحبه في العقيدة والعبادة ، والحل والحرمة عند حدود الله وشرعه ، والتبديل والتغيير ، أو الزيادة والنقص ، أو الإهمال والتقصير ، أو تلمس الحلول في غيره ، هو بعينه الانحراف عن دين الله ، وابتداع شرع جديد لم يأذن به الله ، والمسلم مأمور بتطبيق وحي الله وشريعته ونبذ ما سوى ذلك وطرحه وراء ظهره : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا الآية (الشورى : 13)
(وقد تنوعت أحكامه فلم تقتصر على الأسس والقواعد الواجبة التطبيق في مجال معين وإنما تضمنت الأحكام الخاصة بالعقيدة والشريعة والعبادات والأخلاق . . ذلك : لكي تتكامل شخصية المؤمنين به وتتآزر مختلف الأحكام في تكوين المجتمع الفاضل وإعداد الشخصية المسلمة وتربية الأمة تربية إسلامية تؤهلها لوصف الله إياها بأنها خير أمة أخرجت للناس ، إننا لن نسهب في بيان أن القرآن الكريم كتاب إلهي أوحاه الله تعالى إلى رسوله خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم ، ونقل إلينا بطريق القطع الذي لا يدخله ريب في كلمة أو حرف منه ، نقلا متواترا ، لم تتخلله فترة من لحظات الزمن منذ أنزله الله تعالى على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وتلقاه عنه أصحابه ، وكتبوه وحفظوه في صدورهم آية آية ، وسورة سورة ، على الوضع الذي هو عليه في صدور حفظته من عشرات الألوف من قراء الإسلام ، في كل عصر ومصر من أمصار الإسلام . ذلك لأن هذا النحو من البحث إنما يكون من الذين يلحدون في آيات الله عنادا للحق ومكابرة لواضح البرهان ، وقد أشبعه العلماء بحثا ، وأطنبوا فيه حديثا ، حتى جعلوه لمن شرح الله صدره لقبول الحق مكان الشمس في ضحوة النهار ليس دونها سحاب .
وإنما نقصد إلى الحديث عن القرآن باعتباره منبع الهداية ، وموئل الحكمة ، ومبعث العدالة والرحمة ، والمصدر الأعلى للتشريع الإسلامي على ما جاء في حديث الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كتاب الله فيه نبأ ما كان
قبلكم وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، وهو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا : قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد (الجن : 2 ، 1) ، من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه فقد هدي إلى صراط مستقيم . . .
والتاريخ الصادق لا يتردد في أن القرآن الكريم قد عاصر أحداث تطور الإنسانية سياسيا وفكريا واجتماعيا ، وعاصر المد الحضاري في العصور المختلفة ولم يحظ كتاب بمثل ما حظي به القرآن العظيم من العناية في تلقيه وحفظه وضبطه ونقله وروايته جيلا بعد جيل ، وقبيلا إثر قبيل .
* فهو الكتاب الفذ الذي حفظ في صدور قرائه من جماهير المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، وشمالها وجنوبها تلاوة وحفظا وإتقانا وتجويدا وحذقا لا يفوتهم منه حرف من كلمة أو آية .
* وهو الكتاب الفذ الذي كتب كله في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفقد منه حرف .
* وهو الكتاب الفذ الذي أجمع المسلمون بجميع فرقهم ومذاهبهم على شرط التواتر القائم في نقله سورة سورة ، وآيه آية ، وكلمة كلمة .
* وهو الكتاب الفذ الذي انفرد في عصر النبي صلى الله عليه وسلم بالكتابة بأمره صلى الله عليه وسلم حتى انفرد بالتواتر واشتهر بالعرفان لدى الخاصة والعامة فلا يشتبه بغيره لأول وهلة وإن كان بأسلوبه البياني الخاص لا يمكن فيه الاشتباه عند أدنى تأمل ، روى الأئمة وأخرجه مسلم من حديث أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه . . . الحديث) .
ذلك لأن القرآن منذ نزوله آية آية ، وسورة سورة ، كان له تاريخ مشهود ، في تلقيه ونقله بالتواتر القاطع ، وحفظه في الصدور ، وكتابته في الصحف والمصاحف ، فلم يعرف التاريخ القرآني أنه في وقت من الأوقات أو لحظة من لحظات الزمن فقد المسلمون سورة من سوره ، بله آية من آياته ، بله القرآن كله ، وكانت خصيصة القرآن في تلقيه ونقله التواتر القطعي ، فهو بهذا يكون محفوظا تاما من التحريف أو التغيير أو التبديل .
نعم إن القرآن الكريم يحمل بين أحضانه برهان حفظه فالله تعالى يقول فيه إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (الحجر : 9) . بيد أن الحفظ قد تختلف وسائله وتتعدد طرائقه ومن مظاهرها في المتعارف بين الناس هو تيسير الأمة إلى العناية به عناية تفوق كل عناية وبهذه النظرة الفاحصة وبهذا الاعتبار المشرق كان القرآن الكريم هو المرجع الأول لجميع مصادر التشريع في الإسلام ، والدستور الجامع لتلك التشريعات نصا وتفصيلا ، أو دلالة وتأصيلا ، وهذا عند جمهور المفسرين والفقهاء وهو معنى العموم في قوله تعالى ما فرطنا في الكتاب من شيء (الأنعام : 38) .
فالكتاب عندهم هو القرآن بدلالة قوله تعالى : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء (النحل : 89) لأن المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تبيانا لكل شيء هو القرآن الكريم بلا منازع .
يقول الإمام الشافعي رحمه الله ( . . . فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله تعالى الدليل على سبيل الهدى فيها وأخرج عنه ابن جرير وابن حاتم أنه قال : أنزل الله في هذا القرآن كل علم وبين فيه كل شيء ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن) .
وهذا كلام يدل على نفاذ بصيرة وتعمق في فهم القرآن ، وفقه معانيه ، لأن القرآن الحكيم هو المعجزة الخالدة للنبوة الخاتمة ، فلو لم يكن فيه من العلوم والمعارف ما تقصر العقول عن الإحاطة به في عصر من العصور لما تحقق استمرار إعجازه والتحدي به على مر العصور والأجيال ، وإعجازه قائم لا تزال الأيام تكشف منه كل يوم جديدا .
وإن نظرة واحدة إلى ما شرعه الله في القرآن من أصول وقواعد ، وما دعا إليه من آداب وسلوك ، وسنن قويمة تجعل المرء يؤمن من أعماق قلبه أن الإسلام جعل هذه الأمة ، خير أمة أخرجت للناس ، تقودهم إلى الخير ، وتوجههم إلى الغاية المثلى وتدلهم على السعادة الحقيقية) .
وصدق الله تعالى إذ يقول : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله (آل عمران : 110)
ولسنا الآن بصدد تفصيل كل ما سنه الإسلام من شرائع لإصلاح الحياة ، وتهذيب كل ناحية فيها ، وتأمين الناس حتى لا يبغي بعضهم على بعض ، ولا يأكل أحد مال أحد أو يلغ في عرضه أو يكشف ستره أو يهتك حرمته ، فذاك أمر يطول الحديث فيه .
ولكن دعنا أخي القاري الكريم نقتطف زهرة فواحة من بعض النواحي ، وفيها غنية لكل عاقل يلازمه النظر الصحيح والإدراك السليم ، ودلالة أبلغ دلالة على أن الإسلام دين ودولة أدب وسياسة ، عبادة ومعاملة ، وتشريع يربط العبد بربه ويصل الإنسان بأخيه الإنسان ، صلة كريمة لا بغي فيها ولا عدوان ؛ فمن حيث عموميته وشموله فإنه تشريع محكم وعام وخالد أتى بالأسس التشريعية والخلقية التي تسمو بالإنسان إلى أعلى درجات الكمال ، أنزله رب البرية عاما للثقلين : الإنس والجن وموجه إلى الناس كافة ، باعتبار إنسانيتهم التي ميزتهم عن سائر الحيوان : يحقق مصالحهم في كل عصر ومصر ، ويفي بحاجتهم ولا يضيق بها ولا يتخلف عن أي مستوى عال يبلغه أي مجتمع من المجتمعات ، ومع عمومية التشريع الإسلامي فإنه شامل كذلك لكل جوانب الحياة ومناحي الاجتماع فلم يترك شاردة ولا واردة إلا ذكر فيها خبرا أو شملها حكما أو أدرجها تحت أصل أو قاعدة .
فقد وسع بقواعده العامة وأحكامه الفرعية جميع شؤون الحياة واستوعب حاجات الإنسان ووفق بين مقاصده وبين تحديد الغاية من خلقه . . . قال تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (الذاريات : 56)
وقال تعالى : قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين (الزمر : 11 ، 12)
وتناولت بيان وظيفته في الحياة ومركزه في هذا الكون الفسيح قال تعالى : هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب (هود : 61)
وقال تعالى : هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور (الملك : 15)
والإيمان به ينحصر في الإيمان بوجود الله ووحدانيته ، والإيمان بالملائكة والرسل الكرام ، وبالكتب الإلهية المنزلة ، وبالقدر خيره وشره ، وعناصر هذه العقيدة تسمو عما نشاهده في عالم اليوم من عقائد باطلة وفلسفات مشوهة ، فهي عقيدة تحرر الإنسان من المخاوف والقلق والاضطراب ، وتشعره بعزته وكرامته وأهمية وجوده في الحياة ، حيث إنه مستخلف في الأرض وهو المنوط به إعمار الكون ، وتقدم الحياة البشرية ، وإحراز السبق المدني والحضاري .
إن عقيدة القرآن تعتمد العقل وسيلة الإقناع ، والحكمة أسلوب الدعوة إليها ، والعلم ميزانا ومأوى ، وطريقا لبناء الفكر والحضارة .
أما العبادة في الإسلام ، فهي ترجمان صادق حسي للعقيدة ، ولا بد منها ؛ لأن الإيمان : ما وقر في القلب وصدقه العمل ، وهي بالإضافة لذلك طريق لغرس رقابة الله في السر والعلن في القلوب المؤمنة ، وتلك الرقابة مصدر دافع لكل خير ومبعد ناء عن كل شر ، فهي تهذب النفس والمشاعر الإنسانية ، وترشد إلى الفضيلة ومقاومة الرذيلة ، وتدعو إلى الخير العام والخاص ، وتؤدي إلى توثيق الروابط والصلات الاجتماعية والإنسانية والأسرة في الإسلام قوية متضامنة مترابطة غير مفككة ، تجمع بين أفرادها المحبة والمودة والرحمة والعطف بين الكبير والصغير ، ويعتز المسلمون ببقاء رابطة الأسرة قوية غير مفككة خلافا لما في الغرب أو الشرق ؛ لأن الأسرة محكومة بضوابط وآداب وسلوك قرآنية في الإسلام .
والمجتمع الإسلامي أيضا مجتمع متكافل متراحم متعاون ، والأمة الإسلامية صاغها القرآن الكريم وجعلها أمة واحدة ، والمؤمنون إخوة ، والجماعة رحمة والفرقة عذاب ، ويد الله مع الجماعة ، والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ، يرعى القوي الضعيف ، والغني الفقير ، والصحيح المريض . والمحبة نسيج الإيمان الذي يجمع أبناء هذا المجتمع ، والمجتمع الإيماني هو قاعدة الدولة في سلمها وحربها ، وفي دعم أزماتها المالية ورفدها بكل ما تحتاج إليه لحماية وضمان المصالح العامة الداخلية والخارجية ، وأبناء المجتمع القرآني بناة المدنية والحضارة الروحية والمادية معا ، يعملون بما يحقق الصالح العام والأهداف الكبرى ، ويمتنعون عن كل ما يوهن الأمة ويضعف المجتمع المعاصر ، وإبقاء مظاهر التخلف والجهل والفقر والمرض .
والمعاملات أو العقود في منهج القرآن بين أبناء المجتمع كلها مدنية ، لا شكليات ولا تعقيدات فيها ، ولها ضوابطها وقواعدها الشرعية القائمة على حفظ الحقوق وإقامة الحق والعدل والمساواة ومنع المنازعات ومقاومة كل أشكال الكسب غير المشروع الناجم عن الغش والغبن والاستغلال ، والطيش البين ، والهوى الجامح ، والخداع ، والقمار ، والربا أو فوائد القروض والبيوع ، وجميع حالات أكل أموال الناس بالباطل ، فكل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله
وعرضه .
والتعازير تعد مؤيدات وكوابح لحماية نظام الشريعة الأصلي واحترام أصولها العامة ، وغايتها تحقيق الأمن والاستقرار والأمان وزرع الثقة فيما بين الناس .
والأخلاق في المنهج القرآني ليست ذات غاية نفعية ، وإنما هي محترمة مصونة لذاتها ، ولأنها جزء من العقيدة والدين ، وهي محل عقاب وجزاء في الدنيا والآخرة ؛ يشعر كل مسلم أنه بالتزامه الجانب الأخلاقي يرضي الله به ، ويحس في أعماق نفسه بضرورة الأخلاق الحسنة من صدق وأمانة ووفاء بالعهد والوعد وإتقان العمل ، والإخلاص ، والحلم ، والجود ، والرفق والرحمة ، والصبر والعفة ، والحياة والإخاء والاتحاد ، والكرامة وعزة النفس ، والشجاعة والإقدام والانتفاع التام بالوقت ، وغير ذلك ليسعد الناس ، ويهنأ المجتمع .
ونظام الحكم في الإسلام يقوم على أسس الحق والعدل ، والشورى ، والمساواة ، والحرية في إطار الدين الذي يمنع الجموح والشذوذ ومصادمة القيم الكبرى والنظام الأمثل وسعادة الإنسان نفسه ، ويعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أساس التكافل الأدبي والثقافي والاجتماعي ، كما أن التضحية والعمل للصالح العام المقدم على الصالح الخاص ، وبناء مستقبل الأمة والتعاون والتكافل ، كل ذلك من قواعد الحكم القرآني .
* ويدعو القرآن كذلك إلى المحافظة على الأموال فيقول جل شأنه ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون (البقرة : 188)
* ويحرص أشد الحرص على صيانة الدماء فيقول عز من قائل ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق (الإسراء : 33)
* وقوله تعالى : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما (النساء : 93)
*ويشرع القصاص فيقول سبحانه : ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون (البقرة : 179)
* ويدعو إلى الوفاء بالعقود واحترام العهود حتى مع المعاهدين ومن دخلوا في ذمة المسلمين : إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين (التوبة : 4)
* وهكذا نجد في كل ناحية ، تشريعا محكما ونظاما دقيقا وحكما هادئا رفيقا ، لا عنف فيه ولا قسوة ولا ظلم ولا إجحاف ، ولا يشعر أحد بما يشق عليه أو يجد فيه عسرة مادام يؤدي واجبه ويقوم بتبعاته .
? فهل بعد هذا تشريع يحفظ كيان المجتمع من التهدم ويصونه من الانحلال والتدهور؟
* وهل بعد هذا التشريع المهذب السمح ، تشريع يمكن أن يأخذ به الناس وتسير عليه الجماعات ويصلح به شأن الدنيا؟ ، فإذا صح عزم المرء وصدقت نيته في التوجه إلى الله فإن في أحكام القرآن وشرائعه دليلا له إلى معالم الصراط المستقيم ? وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه الآية (الأنعام : 153)
* كما أن التحدي به قائم يحمله في أحضان آياته فلا يمر عصر من الأعصار إلا ويظهر في القرآن من مظاهر الإعجاز بكل صوره ما لم يكن معروفا للعصور التي سبقته تمشيا مع تقدم الفكر البشري وتقدم العلوم والمعارف .
* أفي هذا عبرة لمن تحدثهم نفوسهم أن الإسلام دين ليس له شأن في الدولة؟ ، وعبادة لا تتصل بالسياسة؟ ، إنه ادعاء مريض وتفكير سقيم ، ونظر كليل ، لا يعرف الحقائق الدامغة ، ولا يبصر ما تحفل به صحائف التاريخ من مجد أثيل وجاه عريض ، والسماحة واليسر في تكاليف الإسلام وشرائعه من أهم خصائص التشريع القرآني ، قال الله تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر (البقرة : 185) ومبدأ السماحة واضح في العبادات والمعاملات حيث يسر الله أداءها وراعى الظروف الاستثنائية الاضطرارية والحاجية كالسفر والمرض والإكراه والاضطرار ، وراعى مبدأ الظروف الطارئة في العقود وغيرها .
والخلاصة إنه حين يستعرض المرء مظاهر التشريع القرآني ويتأمل فيما أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم من أحكام وآداب ؛ يرى أن الإسلام وضع الدواء الناجح لكل داء والبلسم الشافي لكل جرح ، وعالج كل مشكلة يمكن أن تصيب الجماعة بالتصدع والانهيار . . . . . . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله تعالى : وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه الآية (المائدة : 48)
قال : (إن القرآن الكريم قرر ما في الكتب المتقدمة من الخبر عن الله ، وعن اليوم الآخر ، وزاد ذلك بيانا وتفصيلا ، وبين الأدلة والبراهين عن ذلك وقرر نبوة الأنبياء كلهم ورسالة المرسلين ، وقرر الشرائع الكلية التي بعث بها الرسل كلهم . . . ومن تأمل ما تكلم به الأولون والآخرون في أصول الدين والعلوم الإلهية وأمور المعاد ، والنبوات ، والأخلاق والسياسات والعبادات ، وسائر ما فيه كمال النفوس وصلاحها وسعادتها ونجاتها لم يجد عند الأولين والآخرين من أهل النبوات ، ومن أهل الرأي كالمتفلسفة وغيرهم إلا بعض ما جاء به القرآن . . . ولهذا لم تحتج الأمة مع رسولها وكتابها إلى نبي آخر وكتاب آخر فضلا عن أن يحتاج إلى شيء لا يستقل بنفسه غيره) . .
إذا كان القرآن قد أبان أصول الاعتقاد المنجي بين يدي الله تعالى ، ووضح للبشرية طريق العبادة الصحيحة ، وأحل الحلال النافع ، وحرم الحرام الضار ، ووضع منهج المعاملات المشروعة ، فأحل البيع ، وحرم الربا ، ومنع أكل أموال الناس بالباطل من سرقة ورشوة وغصب ونهب وغش وخديعة وغبن واستغلال ، وأقام دعائم الحكم على أساس من الحق والعدل والشورى والحرية والمساواة ، ونظم العلاقات الدولية على قاعدة من إيثار السلم لا الحرب ، والأمان لا الإرهاب والرعب والخوف ، والوفاء بالعهد ، والرحمة والفضيلة والأخلاق والإنسانية الكريمة ، وشرع الجهاد لدحر العدوان وقمع الظلم ، وإنقاذ المستضعفين ، وحماية المضطهدين ، ومنع الفتنة في الدين ، والدفاع عن ديار المسلمين ووجودهم وكيانهم وحرماتهم وحقوقهم ، والقيام بواجبهم في تبليغ رسالة الإسلام ودعوة الله إلى الناس كافة .
فما على أهل القرآن إلا الالتزام بما شرع الله ، وامتثال ما أمر به الله ، واجتناب ما نهى عنه ، وهذا هو التدين الصادق الذي يقف بصاحبه في العقيدة والعبادة ، والحل والحرمة عند حدود الله وشرعه ، والتبديل والتغيير ، أو الزيادة والنقص ، أو الإهمال والتقصير ، أو تلمس الحلول في غيره ، هو بعينه الانحراف عن دين الله ، وابتداع شرع جديد لم يأذن به الله ، والمسلم مأمور بتطبيق وحي الله وشريعته ونبذ ما سوى ذلك وطرحه وراء ظهره : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا الآية (الشورى : 13)